سورة الشورى - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
هو إضراب على موقف المشركين من قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى}.
ففى هذا دعوة للمشركين إلى الإيمان بهذا الدين الذي شرعه اللّه لهم، وإذ هم أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة، فقد أضرب اللّه سبحانه عن دعوتهم إلى هذا الدين الذي شرعه لهم، ثم كشف سبحانه عن العلة التي تمسك بهم عن الاستجابة لهذه الدعوة، وهى أنهم على شريعة شرعها لهم رؤساؤهم، وسادتهم، وهى شريعة باطلة من مبتدعات أهوائهم، ونضيح ضلالانهم، لم يأذن بها اللّه، ولم يرسل بها رسولا من عنده.
وفى إطلاق الشركاء على زعماء الباطل، ودعاة الضلال، إشارة إلى أنهم يدينون بهذه الشريعة الباطلة، ويسبحون في ضلالها، مع أتباعهم.. فهم جميعا- أتباعا ومتبوعين- على سواء في هذا الضلال.
وقوله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} كلمة الفصل، هى الكلمة التي سبقت من اللّه سبحانه وتعالى بأن يؤجل عذابهم إلى يوم القيامة {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً} [17: النبأ] ولو لا هذه الكلمة لقضى بينهم في الدنيا، ولأخذهم العذاب كما أخذ الظالمين قبلهم.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي أن هؤلاء الظالمين إذا لم يقع بهم العذاب الدنيوي، فإنه ينتظرهم عذاب أليم في الآخرة.
قوله تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} هو انتقال بهؤلاء المشركين الظالمين من موقفهم في هذه الدنيا، إلى يوم القيامة، حيث يرون العذاب، فيقع في نفوسهم أنهم صائرون إليه، وأن ما أنذروا به في الدنيا قد وقع.. فقد كانوا لا يؤمنون بالبعث، ولا يؤمنون بالعذاب.
وها هو ذا يوم البعث.. ومن ورائه العذاب المرصود لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً} [53: الكهف].
وقوله تعالى: {وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ} الضمير للعذاب الذي جاء ذكره في الآية السابقة في قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
.. وفى عدم ذكره، والإشارة إليه بضميره- إشارة إلى أنه شيء مهول، وأن ما رأوا منه ليس إلا إشارة دالة عليه، أما ما غاب عن أعينهم منه، فهو الذي سيعرفونه حين يلقونه ويعيشون فيه، وهو مما لا يحدّه وصف، من هول وبلاء.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.
هو بيان لما يلقى الذين آمنوا وعملوا الصالحات في هذا اليوم، من نعيم في روضات الجنّات، التي عرضها السموات والأرض {لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} من عطائه الممدود، بلا حساب.
وقوله تعالى: {ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} الإشارة هنا، إلى ما ينال المؤمنون من عطاء ربّهم، وما يتلقون من فضله وإحسانه.. فذلك هو الفضل الكبير حقا، الذي يعدل القليل منه كلّ ما في الدنيا من مال ومتاع.. واللّه ذو الفضل العظيم.
قوله تعالى: {ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} الإشارة بذلك، بدل من الإشارة في قوله تعالى: {ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي ذلك الفضل الكبير، هو ذلك الذي يبشر اللّه به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات... يبشرهم به على لسان رسوله فيما ينزّل عليه من آيات ربّه، ويبشرهم به عند لقاء الموت حيث تلقاهم الملائكة بما أعدّ اللّه لهم من نعيم في الآخرة، وحيث يرون بأعينهم مقامهم في الدار الآخرة، ويبشرهم به يوم البعث، حيث يقومون ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، كما يقول اللّه تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [12: الحديد] قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}.
أي أن هذا الخير الكثير الذي يحمله النبىّ إلى المؤمنين، ويسوق إليهم ما يبشرهم به ربهم، من فضل وإحسان يلقونه في الآخرة {فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ} هذا كله لا يطلب النبي منهم عليه أجرا، فإن يكن ثمة أجر فهو رعاية حرمة القربى بينه وبينهم، وما ينبغى أن يكون بينه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وبينهم من رحمة ومودة،. وها هو ذا- صلوات اللّه وسلامه عليه- يصلهم بأعظم صلات الودّ بما يقدم إليهم من هذا الخير العظيم الذي يكفل لهم حياة طيبة كريمة في الدنيا، ونعيما ورضوانا في الآخرة.
ثم هاهم أولاء يلقونه- صلوات اللّه وسلامه عليه- بالقطيعة، ويرمونه بالعداوة، غير مراعين للقرابة حقّا، أو حافظين لها عهدا، أو مبقين على شيء من الإنصاف معه.. فلو أنهم أنصفوا القرابة، لما كان لهم أن يذهبوا إلى هذا المدى الذي ذهبوا إليه، من قطيعة النبي، والكيد له، والتربص به.. لأنه صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يكن قاطعا لهم، أو متوجها بكيد إليهم، أو متربصا بسوء بهم، بل إنه ليمد إليهم يدا كريمة بالخير والمعروف، ويوجه إليهم دعوة رفيقة حانية، تدعوهم إلى هذا الخير والمعروف.
وكان من شريعة الإنصاف إن لم يقبلوا هذه الدعوة، أن يردّوها برفق وأن يدعوا صاحب الدعوة وشأنه مع من يستجيبون لدعوته، ويطعمون من مائدته، لا أن يزعجوه ويزعجوا ضيف اللّه الذين دعاهم إليه!.
هذا وجه من وجوه تأويل هذا المقطع من الآية الكريمة.
ووجه آخر.. وهو أن النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- لا يسأل قومه أجرا على ما يحمله إليهم من رحمة اللّه، وفضله وإحسانه، وإنما ذلك منه صلوات اللّه وسلامه عليه- هو مودة في سبيل القربى، إذ آثرهم على غيرهم، وجعلهم أول من يمد يده الكريمة إليهم بالنور الذي معه.. فهو منهم، وهم أولى الناس ببرّه وإحسانه.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} [128: التوبة].
وقد بدأ النبىّ رسالته، وما تحمل من هدى وخير، بدعوة قومه إليها، فكانوا أول من استفتح بهم النبي الكريم دعوته، كما أمره اللّه سبحانه بذلك في قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [214: الشعراء].
هذا، ومن بعض التأويلات لهذا المقطع من الآية الكريمة أن المراد بالمودة في القربى، هى مودة آل البيت رضى اللّه عنهم، وهى الأجر الذي يطلبه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- من المؤمنين.. أي لا أسألكم أيها المؤمنون من أجر لى، ولكن أسألكم المودة لآل بيتي. فهو الأجر الذي أسألكم إياه، على ما أقدم إليكم من خير، وما أحمل لكم من هدى.
وهذا التأويل بعيد.. وذلك من وجوه:
فأولا: أن مودة المؤمنين بعضهم لبعض، هى من دين المؤمنين، فالمؤمنون كما يقول اللّه تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}.
وهم بهذا الولاء متوادّون، أو ينبغى أن يكونوا متوادين.. وأولى المؤمنين بمودة المؤمنين وولائهم، أقربهم إلى رسول اللّه.. فآل بيت رسول اللّه داخلون في هذه المودة العامة التي بينهم وبين المؤمنين، من باب أولى.. {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ}! فحبّ آل بيت رسول اللّه ومودتهم، من إيمان كل مؤمن، فلا يحتاج هذا إلى ذكر خاص.
وثانيا: الأجر الذي يطلبه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- ينبغى أن يكون لحساب الدعوة الإسلامية، لا لشخصه، ولا لذى قربى منه.
وهذا التأويل يجعل الأجر محصورا في هذا المعنى المحدود، الذي يذهب بكثير من جلال هذا الأجر الذي لا يوفّيه أجر مما في هذه الدنيا من مال ومتاع.
فالأجر الذي يطلبه النبىّ إنما يطلبه من اللّه، كما يقول سبحانه على لسان أنبيائه.
{وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ}.
(109، 127، 145، 164 180: الشعراء) وثالثا: هذه الآية مكية، وكان من آل بيت رسول اللّه كثيرون ممن لم يدخلوا في الإسلام، كعميه أبى طالب، والعباس، بل ومنهم من كان يؤذى النبي أذى، بالغا، ويكيد له كيدا عظيما، كأبى لهب، فلم يكن من المقبول- والأمر هكذا- أن تجىء دعوة السماء بمودة آل البيت الذين لم تتضح معالمهم في الإسلام بعد.. وأولى من هذا أن تكون الدعوة بالمودة عامة، بين النبي وقومه جميعا، وخاصة المشركين منهم، ويكون معناها الدعوة إلى التخفف من عداوتهم للنبىّ، وكيدهم له، وتركه وشأنه، مراعاة لتلك القرابة التي بينه وبينهم.. إذ لم يكن منه مساءة لهم، بل كان ودودا لهم، رحيما بهم، يريد لهم الخير، ويؤثرهم به.
ورابعا: أن الخطاب عام موجه إلى المشركين بصفة خاصة، الذين يحاجهم القرآن، ويتهددهم بالنار، ويعرض لهم في مقابلها الجنة، وما يلقى المؤمنون فيها.. {أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}.
أي لا أسالكم أجرا على هذا الخير الذي تنالونه من هذه الدعوة التي أدعوكم إليها، والتي إن استجبتم لها بلغتم منازل الرضوان، ونزلتم حيث ينزل عباد اللّه المكرمون في جنات النعيم.. وذلك كله في غير مقابل منّى، إلا أن ترعوا ما بينى وبينكم من قرابة، هى التي جعلتنى أبدأ بكم، وأوثركم على غيركم، وهذا من شأنه أن يحملكم على رعاية هذه القرابة، فلا تكونوا أنتم أول كافر بي، ثم لا تكونوا أنتم أول من يسعى بالضر والأذى إلىّ.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً}.
هو دعوة إلى المشركين الذين يقفون هذا الموقف العدائى من النبي، أن يأخذوا جانب الخير الذي يدعوهم إليه، وأن يتقبلوا منه هذه المودة التي يؤثرهم بها.. فمن استجاب منهم لهذه الدعوة، وآثر الإحسان على السوء، والإيمان على الكفر، فإنه سيلقى جزاء إحسانه إحسانا مضاعفا من اللّه.
وفى قوله تعالى: {يَقْتَرِفْ} وفى استعمال هذا الفعل في مقام الإحسان، على أنه يستعمل غالبا في مجال الشرّ والمساءة {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ} [113: الأنعام] في هذا إشارة إلى أن اليد التي تعمل السوء، تستطيع أن تفعل الإحسان، وأن الإنسان الذي يسلك طريق الشر، هو نفسه يمكن أن يسلك طريق الخير.. وإذن فإنه لا حجاز بين المشركين وبين الإيمان، وأنهم إذا كانوا يلبسون رداء الشرك الآن، فإنهم قادرون على أن ينزعوا هذا الثوب، وأن يتزبّوا بزىّ الإيمان.. في لحظة واحدة.
وهذا ما يشير إليه التعقيب على هذا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} فهذه مغفرة اللّه الواسعة، مبسوطة لمن يجيئون إليه، تائبين من ضلالهم، متبرئين من شركهم، حيث تشملهم الرحمة والمغفرة.. وحيث يشكر اللّه لهم ما صنعوا بأنفسهم من إحسان.. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} وإنه ليس أخسر صفقة، ولا أضلّ سبيلا، ممن يرى- وهو المذنب الغارق في الذنوب- يد المغفرة مبسوطة له، ويد الإحسان ممدودة إليه، ثم يحمد حيث هو، متلطخا بآثامه، غارقا في ضلاله.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
هو إضراب على موقف المشركين الذين دعوا إلى أن يخرجوا من موقفهم العدائى للرسول- إلى المحاسنة والمودة، إن لم يكن لأنه رسول اللّه، فلأنه منهم، وهم قومه، وأولى الناس به- ولكنهم أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة التي تأتيهم من جهة القرابة والنسب، بعد أن رفضوا الدعوة التي جاءتهم من قبل السماء، هدى ونورا.
فهاهم أولاء ماضون في كيدهم للنبىّ، وعدوانهم عليه، واتهامهم له بالكذب: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}.
فهذا هو كل ما استقبلوا به الدعوة الكريمة إلى المودة في القربى.
إنه اتهام صريح للنبىّ بأنه كاذب افترى هذا القرآن الذي يدعوهم إليه، بدعوة اللّه.
وقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ}.
هو تهديد للمشركين بقبض هذه اليد الممدودة لهم بالهدى، ورفع هذه المائدة المبسوطة لهم بالخير.. وإذا هذا القرآن الذي نزل على النبي قد ختم عليه في قلبه- صلوات اللّه وسلامه عليه- فاحتواه كله، وغربت شمسه فيه، فلم يخرج منه شيء لهؤلاء المشركين، بل يتركون وما هم فيه من ظلام وضلال، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في قوله: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} [86- 87: الإسراء].. واللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يمحو هذا الباطل المجسد في هؤلاء المشركين ويقطع دابرهم، فلا ترى منهم أحدا، فبكلمة من كلمات اللّه، يمحو سبحانه هذا الباطل، ويقضى على أهله، ويحقّ الحق، ويثبت دعائمه.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي أنه سبحانه إذ يقضى قضاءه في هؤلاء المشركين، فإنما يقضى بعلمه الذي يكشف ما تنطوى عليه الصدور، فيهلك الضالين الظالمين، وينجّى المؤمنين المتقين.
والمشيئة هنا في قوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ} مشيئة غير واقعة، لأنها معلقة بشرط غير واقع.. فاللّه سبحانه لم يشأ أن يختم هذا الختم على قلب النبي.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} وقوله سبحانه: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ} [112: الأنعام]. وقوله جل شأنه: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً} [118: هود].
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} هو بيان شارح لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} فهذه الآية- كما قلنا- دعوة للمشركين الذين اقترفوا السيئات، أن يعودوا إلى أنفسهم، ويقيموها على طريق الهدى، ويقترفوا الحسنات، كما اقترفوا السيئات.. ثم كان أن تهدّدهم اللّه بما يقولون من منكر القول في رسول اللّه، وذلك ما حكاه القرآن الكريم عنهم في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}، ثم تهددهم بذهاب هذا النور الذي طلع في ظلام ليلهم إليهم، فقال تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ.. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
وفى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} عودة إلى المشركين بعرض هذا النور عليهم بعد أن آذنهم اللّه بزواله عنهم، وفى هذا وصل لتلك الدعوة التي دعوا إليها باقتراف الحسنة، وبيان شارح لها، على اعتبار أن هذا التهديد اعتراض واقع في ثنايا هذه الدعوة.
ففى قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} دعوة إلى التوبة، وإلى اقتراف الحسنات بعد اقتراف السيئات.. وفى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ} بيان للجهة التي يتوجه إليها التائبون بتوبتهم.. إنها إلى اللّه وحده.. فهم إنما يقدمون أعمالهم إلى اللّه، ويتوجهون بتوبتهم إليه، وعندئذ يجدون اللّه سبحانه هو الذي يتلقاها منهم.
وفى هذا إغراء باللّجأ إلى اللّه، وإطلاق الإنسان من أىّ ولاء لغير اللّه.. وذلك في أول الطريق إلى اللّه.. فإذا آمن باللّه، آمن برسول اللّه، وجعل ولاءه للّه ولرسوله، وللمؤمنين.
وفى تعدية الفعل (يقبل) بحرف الجر {عن} مع أنه يتعدى بمن، فيقال قبل فلان من فلان كذا، ولم يقبل منه كذا- في هذا إشارة إلى تضمين الفعل معنى الحمل، بمعنى أن اللّه سبحانه هو الذي يحمل التوبة عن عباده التائبين، وإن جاءت توبتهم محملة بالذنوب، مثقلة بالأوزار، فإن التوبة ترفع عن كاهلهم ما أثقلهم من ذنوب قد حملها اللّه عنهم.
وقوله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ} أي أنه سبحانه إذ يحمل التوبة عن عباده، ويتلقاها بما تحمل من أوزار وسيئات، فإنه سبحانه، يعفو عن تلك السيئات ويتجاوز عنها، ويغفرها لأصحابها.. فهو سبحانه الذي يقبل التوبة، وهو سبحانه الذي يملك العفو عن السيئات.. وهو سبحانه الذي يعلم ما يعمل الناس من خير أو شر.
وفى الآية الكريمة دعوة إلى العصاة والمذنبين أن يلوذوا برحمة اللّه، ومغفرته، وأن يوجهوا وجوههم إليه تائبين من ذنوبهم، نادمين على ما فرط منهم، فاللّه سبحانه وتعالى يلقاهم بالرحمة والمغفرة.
ففى الصحيح، من رواية عبد اللّه بن مسعود، رضى اللّه عنه، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «للّه تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم، كانت راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدى وأنا ربك»!! أخطأ من شدة الفرح.
هذا، وليست التوبة، كلمة يلفظ بها اللسان، وإنما هى نية منعقدة على الندم على ما وقع من ذنوب، وعلى العزم على تجنب المعصية.
روى عن جابر بن عبد اللّه، أن أعرابيا دخل مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال: اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك، وكبر (أي تكبيرة الإحرام للصلاة) فلما فرغ من صلاته، قال له علىّ كرم اللّه وجهه: يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة! فقال: يا أمير المؤمنين.. وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب بالندامة، ولتضييع الفرائض، الإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
قوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} أي وهو سبحانه، يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي أنه سبحانه يقبل على عباده التائبين، ويقبلهم.. فمعنى الاستجابة هنا القبول، ولهذا عدّى الفعل {يستجيب} لتضمنه معنى القبول.. أما الكافرون فلا يقبل عليهم اللّه سبحانه ولا يقبلهم ولهم عذاب شديد.. ويجوز أن يكون الفعل مسندا إلى {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} أي أنهم يستجيبون للّه، ويقبلون عليه تائبين.. وفى هذا إشارة إلى أن تقديم توبته سبحانه وإقباله على التائبين قبل أن يتوبوا- هى دعودة من اللّه سبحانه وتعالى إلى العصاة، وقد قبلت توبتهم قبل أن يتوبوا، وما عليهم إلا أن يستجيبوا للّه، ويقبلوا هذا العطاء العظيم، من الرب الكريم.


{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}.
الناس بين الغنى والفقر:
ما معنى بسط الرزق هنا؟ ولما ذا يقع البغي من الناس مع بسط الرزق لهم؟
بسط الرزق معناه في اللغة، سعته وكثرته، من مال ومتاع.
والمراد ببسط الرزق هنا سعته وكثرته للناس جميعا، بحيث لا يكون هناك فقير أو محتاج، بل كل إنسان مكفول له الرزق الواسع، الذي يعيش فيه مستغنيا به عن غيره.
ويبدو في ظاهر الأمر أن المجتمع الإنسانى الذي بسط له الرزق وكفلت فيه حاجة كل فرد- يبدوا أنه مجتمع سعيد، يعيش في رفه ورغد، ويحيا في سلام وأمن.. إذ ما ذا يبتغى الإنسان أكثر من أن تسدّ مطالبه وتقضى حوائجه؟.
ولكن نظرة وراء هذا الظاهر، تكشف عن أن هذا المجتمع الإنسانى- إذا كان له وجود- تفسده سعة الرزق، وتحيل حياته إلى حرب دائمة وعدوان متصل.. إذ ليست كلّ حاجة الإنسان في أن يأكل ويشرب، وأن يجد المأوى والملبس، وإنما حاجاته ومطالبه أوسع من هذه المطالب القريبة التي لا تعد شيئا إلى جانبها.. فهناك وراء مطالب الجسد، مطالب العواطف، والنزعات، وهناك جوع أشد ضراوة وأكثر إلحاحا من جوع البطون.. هو جوع الأثرة، والتعالي، وحبّ التملك والسلطان.. والإنسان في سبيل إشباع هذا الجوع لا يشبع أبدا.. ومن هنا يكون بغى الإنسان على الإنسان، لا ليسدّ جوع بطنه، وإنما ليشبع جانبا من جوع أثرته، وتسلطه، وقهره، وتعاليه.
فهو لا يرضيه أبدا أن يكون في مستوى الناس.. إنه يريد الامتياز عليهم، والتعالي فوقهم، وهو في سبيل هذا يسلب غيره، بل يسفك دمه إن استطاع.
وهذا واقع الحياة والمشاهد فيها.. فالمجتمعات ذات الغنى والثراء، هى موطن الفتنة المتحركة، التي توقد نار الحروب، فيما بينهما، فإذا انفرد مجتمع منها بالغنى والسلطان تحول إلى عاصفة مدمرة تجتاح المجتمعات الفقيرة، وتمتصّ البقية الباقية من دمها، وتأخذ اللقمة من فمها.. هكذا الناس في أفرادهم، وجماعاتهم وأممهم.. الأغنياء يتسلطون على الفقراء، والأقوياء يعتدون على الضعفاء.
لا لشىء إلا إشباعا لشهوة التسلط والعدوان.. وفى هذا يقول الشاعر العربي الجاهلى، الذي يضرب المثل بقبيلة %%%%%%%% بِكْرٌ حين أخصبت أرضها وكثر خيرها، فبغت وتسلطت.. يقول:
إن الذئاب قد اخضرّت براثنها *** والناس كلّهم بكر إذا شبعوا
فكان من حكمة اللّه سبحانه وتعالى، أن وزع الأرزاق بين الناس بقدر، فلم يعط الناس جميعا حاجتهم، فوسّع على بعض، وضيّق على بعض، حتى يعمر الكون، ويتخذ بعضهم بعضا سخريا، وحتى يشغلوا بمطالب العيش، وحتى يكون في هذا الشغل ما يصرف جانبا من عدوان بعضهم على بعض إلى السعى والعمل في وجوه الأرض.. إذ لو أنهم كفوا جميعا السعى في طلب الرزق، لكان شغلهم كله، هو البغي والعدوان.. فالذين بسط اللّه سبحانه وتعالى لهم الرزق، هم غالبا مثار بغى وعدوان، وقليل منهم من يشكر اللّه، ويذكر فضله، فيرعى حق اللّه فيما خوّله من نعم، وبسط له من رزق. وهذا مشاهد في الدول الاستعمارية الآن.. إنها مصدر إزعاج لأمن الإنسانية وسلامتها.
وقد ضرب اللّه سبحانه مثلا لطغيان أصحاب المال وتسلطهم، بقارون، فقال تعالى: {إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [76: القصص]! كما ضرب سبحانه وتعالى مثلا بالخصمين اللذين اختصما إلى داود- عليه السلام- فقال تعالى على لسان أحدهما: {إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} [23: ص] وفى قوله تعالى: {وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ} أي أنه سبحانه ينزل من الرزق ما تقضى به حكمته، فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدره لمن يشاء، كما يقول سبحانه: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [62: العنكبوت].
وقوله تعالى: {إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى إنما لم يبسط الرزق لعباده، لأنه خبير عليم بهم، بصير مقدّر لما هو أصلح لهم.. ولو أنه سبحانه بسط لهم الرزق لبغوا في الأرض، ولما صلح لهم أمر فيها.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}.
والغيث- وهو رزق من رزق اللّه- إنما ينزل بقدر، وحساب، حسب تقدير حكمة اللّه.. فهذا الغيث ينزل في مواقع دون مواقع، فيكون حيث نزل الغيث، الخصب والنماء والخير الكثير. ويكون حيث لا غيث، الجدب والقحط.. وهكذا يكون الغنى والفقر، والرخاء والشدة.. وبهذا يعتدل ميزان الناس في الحياة، ويتوازن موقفهم على جانبى الرجاء واليأس، والأمن والخوف فلا يكونون على حال واحدة أبدا، إذ لو كانوا على هذه الحال أو تلك، لا يتحولون عنها لملوا هذه الحياة، ولسئموا المقام فيها، ولجمدت مشاعرهم عليها.
وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} أي ينزل الغيث على عباده بعد أن يئسوا، وظنوا أن لا غياث لهم مما هم فيه، من جدب يسوقهم إلى التهلكة.
فإذا أصابهم الغيث بعد هذا الكرب العظيم، زغردت في صدورهم بلابل البهجة والمسرة، وأقبلت عليهم الحياة بمواكب الأعراس، تزف إليهم بشائر الرزق والرحمة.. {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} أي ببثها هنا وهناك، فيكون فيها الحياة للأرض، والغذاء والرّى للإنسان، والحيوان، والنبات.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} أي أن اللّه سبحانه هو {الْوَلِيُّ} أي الناصر والمعين، لا ناصر لكم غيره، ولا معين لكم سواه، حين تمدون أيديكم إلى من ينصر، وترفعون أبصاركم إلى من يعين.. وهو سبحانه {الْحَمِيدُ} أي المستحق للحمد وحده، على ما أنعم من نعم، وما أفاض من خير.
وفى الحديث الشريف: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال لوفد فزارة وقد شكوا إليه الجدب: «إن اللّه عز وجل ليضحك من شعفكم وأزلكم وقرب غياثكم» فقال أعرابى منهم: أو يضحك ربنا عز وجل؟ قال: «نعم» فقال الأعرابىّ: لا نعدم من ربّ يضحك خيرا، فضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم من قوله.
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ}.
أي ومن آثار قدرة اللّه ورحمته، أنه خلق السموات والأرض، وخلق ما بث ونشر فيهما من مخلوقات.. وهو سبحانه قادر على جمع هذه المخلوقات المنتشرة في عوالم الوجود، في السموات وفى الأرض.. ثم إذا شاء سبحانه، جمعهم جميعا من أقطار السموات والأرض، وهم أحياء، ثم بعد أن يموتوا ويبعثوا.
وفى الآية إشارة إلى أن في العوالم الأخرى- غير عالم الأرض- مخلوقات حية، على صور وأشكال لا يعلمها إلا اللّه، وأنها تموت وتحيا.. وهى في سلطان اللّه سبحانه.. يبسطها ويقبضها، ويميتها ويحييها.. وليس ما على هذه الأرض من صور الحياة إلا صورة من صور لا حصر لها، من صور الحياة، في هذا الوجود العظيم.
قوله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى لا يسوق لعباده إلا الخير، وهذا شأنه سبحانه وتعالى فيما خلق من مخلوقات في هذا الوجود.. ولكنّ الناس لهم إرادة عاملة، ولهم كسب هو ثمرة هذه الإرادة.. وهم بهذه الإرادة يحسنون ويسيئون، ويستقيمون على طريق الحق، ويركبون طرق الضلال.. فما كان منهم من إحسان، قابلهم معه إحسان من اللّه إليهم، وما كان منهم من إساءة ردّت إليهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للنبى الكريم: {ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [79: النساء].
أما قوله تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ..} [78: النساء] فهذا ردّ على المشركين، الذين كانوا يتطيرون بالنبيّ.. ولهذا جاء قوله تعالى: بعد ذلك: {ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} ليروا في هذا أن ما أصابهم من سوء لم يكن من النبىّ، الذي لا يملك دفع سوء عن نفسه، كما لا يستطيع سوقه إلى أحد، وإنما الذي يملك هذا وذاك هو اللّه وحده.. وأن ما أصابهم أو يصيبهم من سوء، هو من عند أنفسهم ابتداء، وأنه من عند اللّه ابتداء وانتهاء!! وقوله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}.
إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، يعفو عن كثير من السيئات، ويتجاوز عن كثير من الذنوب، إذ لو أخذ سبحانه الناس بذنوبهم لأهلكهم جميعا، كما يقول سبحانه:
{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} [61: النحل]. وكما يقول {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ} [45: فاطر].
قوله تعالى: {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى إذ يعفو عن كثير من الذنوب، ولم يعجّل بجزاء أهلها عليها- فليس ذلك لما يكون للمذنبين من جاء أو سلطان، فسلطان اللّه فوق كل سلطان، وقوته فوق كلّ قوة، وليس لأحد عاصم يعصمه من بأس اللّه، أو يدفع عنه عذابه، في الدنيا أو في الآخرة، ولكنّ اللّه سبحانه يمهل الظالمين، ويمدّ لهم في الضلالة، ليزدادوا إثما.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا}.
(75: مريم) ويقول سبحانه: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} [178: آل عمران].
روى عن الإمام أحمد عن عقبة بن عامر، رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: «إذا رأيت اللّه يعطى العبد من الدنيا ما يحبّ فإنما هو استدراج» ثم تلا قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [44: 45 الأنعام].
قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
أي ومن الآيات الدالة على قدرة اللّه، وعلى بسطة سلطانه، وعلى فضله وإحسانه على عباده، هذه {الْجَوارِ} أي السفن الجارية على الماء، كالجبال في ضخامتها، وارتفاعها فوق سطح الماء.. فهى المعالم الوحيدة القائمة فوق وجه الماء، كما تقوم الجبال على اليابسة.
فهذه الجواري، إنما تجرى بقدرة اللّه سبحانه وتعالى، بهذه الرياح المسخرة، التي تجريها وتدفعها فوق الماء.. ولو شاء اللّه سبحانه لأمسك هذه الريح، فسكنت وسكن مع سكونها جريان هذه الفلك، فتظل رواكد على سطح الماء.. لا تتحرك.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
أي إن في هذه السفن الجارية على الماء لآيات، لا آية واحدة، لكل صبار، أي كثير الصبر، يجد من صبره ما يعينه على الوقوف الطويل، الدارس، المتوسم، في آيات اللّه، فيرى في كل معلم من معالم هذا الوجود آيات من قدرة اللّه، وشواهد من إبداعه، وحكمته، وتدبيره.. وهذا هو بعض السرّ في جمع الآيات، إذ لا يمكن أن يرى في هذه الفلك وجريها على الماء، تلك الآيات منها، إلا الدارس، المتأمل، الذي يعينه صبره على الوقوف الطويل، والنظر المتفحص.. أما من ينظر نظرا عابرا في معالم هذا الوجود، فإنه لا يرى إلا صورا وأشباحا.. إنه نظر جامد، أشبه بالمرءاة تظهر عليها صور الأشياء، ثم لا تمسك منها بشىء.. واللّه سبحانه وتعالى يقول في أصحاب هذا النظر البارد الفاتر، الساهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ} [105: يوسف].. وفى قوله تعالى: {شَكُورٍ} إشارة أخرى إلى أنّ هذه الآيات التي يراها المتأملون الدارسون، لا تكون آيات وشواهد إلا إذا صادفت قلبا مؤمنا، يردّ هذه الآيات التي تكشفت له، إلى قدرة اللّه، وتدبيره، وحكمته، فيفيض قلبه تسبيحا بحمد اللّه وشكرا له.. أما من يرى هذه الآيات بعين لا تكتحل بنور الإيمان، فإن هذه الآيات لا تحيا في وجدانه، ولا تعيش في مشاعره، فلا ينفعل بها، ولا يهتز لروعتها وجلالها، الذي يرى فيه المؤمنون بعض جلال اللّه، وروعة حكمته!
قوله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {يُسْكِنِ الرِّيحَ} أي إن يشأ اللّه سبحانه يسكن الريح فلا تتحرك، وتظل السفن رواكد على ظهر الماء، أو إن يشأ {يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا}.
ويوبقهن: أي يهلكهن، والضمير يعود إلى الجواري وهى السفن.
وأصله من الإباق، وهو الفرار والهروب، يقال أبق العبد، أي هرب، وأفلت من سلطان صاحبه.. ومعنى هذا أن هذه السفن وهى تجرى على سطح الماء، لا ممسك لها إلا اللّه سبحانه، وأنه سبحانه لو شاء لأفلت زمامها من يد أصحابها، بأن يرسل عليها ريحا عاصفة، يضطرب لها البحر، ويفور، فتغرق، أو لا يستطيع أحد أن يمسك زمامها ولا يدرى أحد أين وجهتها.. وفى هذا الهلاك لراكبيها.
وفى قوله تعالى: {بِما كَسَبُوا} إشارة إلى أن ما يحدث لهذه الجواري من غرق، أوتيه، إنما هو بما كسب أصحابها من سيئات، كما يقول سبحانه في آية سابقة: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}.
(30).
وقوله تعالى: {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} معطوف على قوله تعالى {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا} أي وإن يشأ اللّه يعف عن كثير من سيئات المسيئين، فلا يعجل لهم الجزاء في الدنيا، فتمضى سفنهم في ريح رخاء حتى تبلغ مأمنها.. ثم يكون الحساب والجزاء في يوم الحساب والجزاء.
ويجوز أن يكون المعنى: ويعفو عن كثير من ذنوب هؤلاء المذنبين الذين أخذوا ببعض ذنوبهم، لا كلّها، لأن ذنوبهم أكثر من أن تستوفى منهم بأى عذاب ينزل بهم في هذه الدنيا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} [45: فاطر].
قوله تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}.
هو معطوف على محذوف مفهوم من قوله تعالى: {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} أي ويعف عن كثير من ذنوب هؤلاء المذنبين في الدنيا فلا يعجل لهم العذاب، وذلك ليعذبهم في الآخرة، وليعلم الذين يجادلون في آيات اللّه، ويكذبون بالبعث والجزاء- ليعلموا يومئذ ما لهم من محيص، أي ما لهم من مفر، ولا ملجأ.


{فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى، لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
فى الآية الكريمة تهوين من شأن الدنيا، واستخفاف بمتاعها، إلى جانب ما في الحياة الآخرة من جزاء كريم، ونعيم خالد لا يفنى.
فقوله تعالى: {فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا} هو حكم على هذه الحياة الدنيا، بأن كل ما يناله الإنسان منها من مال أو جاه أو سلطان- هو متاع، أي زاد لا يلبث أن ينفد، أو ثوب لا بد أن يبلى.
فكل ما في الحياة الدنيا إلى نفاد، وزوال.. وإن كثر وعظم.
وقوله تعالى: {وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى} أي والذي يبقى ولا ينفد، هو ما تقبّله اللّه من أعمال صالحة، حيث يكون ثوابها عند اللّه نعيما لا يفنى، ورزقا لا ينفد.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي أن هذا الذي عند اللّه من جزاء حسن، هو للذين آمنوا، وتوكلوا على ربهم، وأسلموا أمرهم له.. وهو كأنه جواب عن سؤال تقديره: لمن هذا الذي عند اللّه فكان الجواب: للذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي هذا الذي عند اللّه من خير، هو للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وهؤلاء هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يغفرون.
وكبائر الإثم، هى كبائر الذنوب، كالقتل، والربا، وشرب الخمر، والزنا، ونحوها.. والفواحش: هى المنكرات، من قول، أو فعل.. وصورتها البالغة في الفحش، تتمثل في الزنا، ولهذا غلب على الزنا، الوصف بالفاحشة.
وفى قصر التجنب على كبائر الإثم، وكبائر الفواحش- إشارة إلى أن الصغائر معفوّ عنها، فضلا من اللّه وإحسانا، كما يقول سبحانه: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى} [32: النجم].
فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وليس من طبيعة الإنسان أن يتجنب الخطأ تجنبا مطلقا، ولكن الذي تحتمله الطبيعة البشرية هو أن يكون منه الإحسان إلى جانب الإساءة، وأن يتجنب الكبائر، إذ كان وجهها القبيح ظاهرا ظهورا بينا.. أما الصغائر، فإنها كثيرا ما تعرض للإنسان، وكثيرا ما يختلط عليه أمرها.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «فقاربوا وسدّدوا» أي اجتهدوا في أن تكونوا أقرب شيء إلى الاستقامة والسداد.
وقوله تعالى: {وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} هو صفة أخرى من صفات الذين آمنوا.. وهى أنهم إذا ما استغضبوا، وغضبوا، غفروا لمن كان منه المساءة التي أغضبتهم.
وفى قرن المغفرة بالغضب، إشارة إلى أن المغفرة التي تكون والإنسان في حال الاستثارة والغضب، هى المحمودة في باب المغفرة، لأنها تجىء عن مجاهدة ومغالبة للنفس، إذ يقهر فيها الإنسان شهوة الانتقام، وبلوى فيها زمام هواه إلى حيث الصفح والمغفرة: {وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [35: فصلت].
وقرن المغفرة بالغضب، أبلغ من قرنها بالإساءة.. فقد يساء إلى الإنسان، ولا يغضب، ولا تتحرك في نفسه داعية الانتقام، فتكون مغفرته حينئذ مغفرة لم يتكلف لها الإنسان مجاهدة، ولم يحمل في سبيلها مئونة.
وفى ذكر المغفرة هنا، إغراء بها، إذ كانت في معرض مغفرة اللّه سبحانه وتعالى لما يقع من الإنسان من اللمم، ومن صغائر الذنوب.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} هو استكمال لصفات الذين آمنوا.. فهؤلاء المؤمنون، من صفاتهم أن يستجيبوا لربهم، أي يمتثلوا أوامره، ويجتنبوا نواهيه.. ومن امتثالهم لأمر، أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.. وإقامة الصلاة، هى الركن الأول من أركان الدين بعد الإيمان باللّه. وإيتاء الزكاة، هو الركن الثاني بعد إقامة الصلاة.
وفى قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} إشارة إلى أن من صفات المؤمنين أن يكونوا على كلمة سواء فيما بينهم من شئون.. فتكون طريقهم واحدة، ووجهتهم واحدة، ويدهم واحدة، وموقفهم واحدا، فلا يذهب كل واحد منهم مذهبا، ولا تركب كل جماعة طريقا.. فهذا من شأنه أن يوهن قوة الجماعة الإسلامية، ويفتّ في عضدها، ويوقع الشحناء بين جماعاتها وأفرادها.
هذا، ولم تجىء الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامى، دعوة قاهرة ملزمة، من غير أن يقوم إلى جانبها الوجود الذاتي للإنسان، والهاتف الشعورى المنبعث من ذاته، إلى هذه الوحدة، بل قام مع هذه الدعوة، بل أمام هذه الدعوة، دعوة إلى الشورى بين الجماعة الإسلامية، في الأمر الذي يعرض لها، ويتطلب وحدة جماعتها.. فهذا الأمر يتلقاه المسلمون جميعا، ويتدارسونه فيما بينهم، ويقلّبون الرأى فيه، وفى هذا العرض للأمر، ما يكشف لهم عن وجه الرأى فيه، وما يأخذون أو يدعون منه.. وعندئذ يكون رأيهم قائما على وجهة واحدة، هى الوجهة التي رضيها الجميع، ونسجوا رايتها من تلك الخيوط التي اجتمعت من آرائهم، فكان لكل إنسان مكانه من هذه الراية التي يسير تحت ظلها.. وبهذا تكون مسيرة المسلمين تحت هذه الراية، مسيرة ينتظمها شعور واحد، ويحكمها رأى واحد، وتحتويها عزيمة واحدة، فيكون منهم بهذا نسيج واحد متلاحم، أشبه بنسيج هذه الراية التي تشكلت من مجتمع آرائهم.
وهذا هو بعض السر في أن جاء النظم القرآنى: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} بدلا من أن يجىء مثلا هكذا: وكانوا أمة واحدة، أو مجتمعا واحدا.. ذلك أنه لن تكون الأمة أمة واحدة، ولن يكون المجتمع مجتمعا واحدا، إلا إذا توحدت المشاعر، ولن تتوحد المشاعر، إلا إذا تلاقت الآراء وتوحدت، ولن تتلاقى الآراء وتتوحد، إلا مع عرضها، وتنخّلها، وذلك لا يكون إلا بالتشاور بينهم، وعرض رأى كل ذى رأى، في صراحة مطلقة، وحرية كاملة.
الشورى في الإسلام.. منهجا وتطبيقا:
ولابد هنا من وقفة مع هذا المبدأ العظيم، الذي قرره الإسلام، ليكون مادة أولى، من مواد هذا الدستور السماوي الذي يحكم الجماعة الإسلامية، ويدين به الفرد والجماعة على السواء.. ذلك هو مبدأ الشورى.
فالشورى شريعة من شرائع الرسالة الإسلامية، حيث ينعقد بها الإجماع، الذي هو أصل من أصول التشريع الأربعة، المعتمدة في الإسلام، وهى الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع.. حيث لا يكون الإجماع على أمر إلا بعد تمحيصه وتقليب وجوه الرأى فيه، وتقديم الحجج والأدلة بين يدى كل رأى، حتى ينتهى الأمر الذي يجمع عليه بالتقاء آراء ذوى الرأى فيه من المسلمين، وهم الذين أطلق عليهم أهل الحل والعقد.
وليس المراد بأهل الحلّ والعقد طبقة خاصة من الناس، أو طائفة معينة من طوائفهم، بل هم في كيان المجتمع الإسلامى كله، في كل زمان ومكان، لا يختص بهم موطن، ولا يحصرهم زمن.. فحيث كان المسلمون فهم جميعا المجتمع الإسلامى، وفيهم أهل الحل والعقد.. أي أصحاب الرأى والنظر.. فكل ذى رأى ونظر، هو من أهل الحل والعقد، وله أن يأخذ مكانه في الأمر الذي يعرض للمسلمين، وأن يدلى برأيه، وبحجته التي تدعم هذا الرأى، كما أن له أن ينظر في رأى غيره، وأن يقول رأيه فيه، معدّلا أو مجرّحا.. كل ذلك بالحجة القائمة على الحق والعدل، لا الهوى وحبّ الغلب.
والرأى الذي ينتهى إليه المسلمون، أو أولو الحل والعقد فيهم، هو ملزم لجماعتهم، لا يجوز لأحد منهم الخروج عليه.. وليس في هذا الإلزام جور على ذاتية الفرد، أو عدوان على حقه في النظر في الأمور، ووزنها بميزان إدراكه وتقديره، بل إن هذا الإلزام هو حماية للشخص من أن يتّبع هواه، أو أن يذهب مذهبا غير مأمون العاقبة، لو أنه أخذ برأيه، وترك رأى الجماعة، إذ كان رأيها هو الرأى الذي تلاقت عنده الآراء، ونخلته العقول.
وإذا كان الإجماع هو الوجه البارز من وجوه الشورى، فإن للشورى وجوها أخرى.. إذ ليس كل أمر يعرض للجماعة الإسلامية، ينتهى بالتشاور فيه، إلى إجماع في الرأى، على نحو الإجماع المعروف في الشريعة.
بل قد يقع الخلاف في الرأى على أمر من الأمور، ثم يرجح جانب فيه على جانب، فيؤخذ بالجانب الراجح، ويترك الجانب المرجوح..!
على أن الذي يعنينا هنا ليس هو صور الشورى، وأشكالها، وإنما الذي يعنينا، وله المقام الأول، هو مبدأ الشورى ذاتها، من حيث اعتبارها حقيقة من حقائق الإسلام، وحكما من أحكامه العاملة التي يأخذ المسلم نفسه بها، ويقيم حياته عليها.
ففى قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} خبر يراد به الأمر، من حيث اقترن بركنين من أركان الدين، وتوسطهما، وهما إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، المأمور بهما شرعا.. فكان حكم الشورى حكمهما، من حيث الوجوب والإلزام.
وفى مجىء الشورى بعد إقامة الصلاة، وقبل إيتاء الزكاة، إشارة إلى أمور:
أولا: أن الصلاة أقوال وأفعال، والشورى كذلك أقوال تعقبها أفعال.
أما الزكاة فهى أفعال خالصة.. فناسب أن تقترن الشورى بالصلاة لمشاكلتها في صورتها، وأن تتقدم من أجل هذا على الزكاة.
وثانيا: أن الصلاة يؤديها المؤمن منفردا، أو في جماعة.. وهو في حال انفراده يؤديها على الصورة التي يراها، من حيث الطول والقصر في أفعالها، قياما، وركوعا، وسجودا.. أما في حال أدائها في جماعة، فإنه ليس له هذا الخيار، بعد أن يأخذ مكانه في الجماعة، وينتظم في عقدها، فهو والجماعة من وراء الإمام، الذي يجب أن يلزموا متابعته في كل حركاته وسكناته.
والشورى، صورة مقاربة للصلاة من هذا الوجه الذي صورناها به.
فإذا كان الإنسان خاليا مع رأيه إزاء أمر من الأمور العارضة له، كان له أن يتصرف في هذا الأمر على الوجه الذي يراه بعقله، ويؤديه إليه اجتهاده.. أما إذا دخل مع جماعة المسلمين في أمر عام، وأخذ مكانه بينهم وانتظم رأيه مع آرائهم على طريق سواء، لم يكن له أن يخرج عن هذا الرأى الذي انتظمت وراءه آراؤهم، والذي يتمثل لهم حينئذ في صورة الإمام الذي يأتمون به في الصلاة.. فكما لا يخرج المأموم في الصلاة عن متابعة الإمام، ولا يجوز له أن يستجيب لإرادته في أن بطيل أو يقصّر، في قيام، أو ركوع، أو سجود- كذلك لا يجوز أن يخرج المؤمن عن الرأى الذي اجتمع عليه المسلمون بعد تشاورهم فيه، وإن كان على خلاف ما يرى. فالرأى الذي أجمع عليه المسلمون هنا هو من رأى الإسلام، والسبيل التي يسلكها المسلمون- متابعة لهذا الرأى- هى سبيل اللّه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً} [115: النساء].
وثالثا: أن الصلاة فريضة عامة، تجب على كل مسلم ومسلمة وجوب عين، ـ وكذلك التشاور بين المسلمين، أمر ملزم لهم جميعا، وحقّ يؤديه كل مسلم ومسلمة للجماعة الإسلامية، وإنه ليس لأحد أن يحول بين المسلم وبين أخذ مكانه بين الجماعة الإسلامية وإبداء الرأى الذي يراه، في أي أمر يعرض لهم، كما أنه ليس لأحد أن يحول بين المسلم وبين أن يأخذ مكانه في صلاة الجماعة بين الصفوف المنتظمة في الصلاة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ}.
ففى تنكير الشورى دليل على إطلاقها وعمومها.. وأنها ليست شورى على صفة خاصة معروفة بأهلها.. فكل مسلم ومسلمة أهل للشورى، كما هو أهل للصلاة في جماعة.
ورابعا: أن الصلاة يجب أن يسبقها من المسلم قبل الدخول فيها إعداد لها، وذلك بالتطهر، والوضوء.. وكذلك الشورى، يجب أن تسبقها طهارة النفس من الهوى، وخلوها من الدخل.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف «الدين النصيحة» قيل لمن يا رسول اللّه؟: قال: «للّه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم».
ولن تكون النصيحة نصيحة إلا إذا جاءت من قلب سليم، وعن نية خالصة من الغش والنفاق.
وخامسا: أن للصلاة وقتا، فإذا جاء وقتها أذّن المؤذن بها، ودعا المسلمين إليها.. وكذلك للشورى وقتها.. فإذا حزب المسلمين أمر، تنادوا به، واجتمعوا له، وتشاوروا فيه.
ذلك هو بعض السر في قرن المشورة بإقامة الصلاة.. ووراء ذلك أسرار وأسرار لا تنتهى.
أما وصلها بالزكاة من طرفها الآخر، فإنه يشير كذلك إلى أمور.. منها:
فمن رأى في أمر من أمور المسلمين خللا، وكان عنده من الرأى والتدبير حا يصلح به هذا الخلل ثم أمسك رأيه، وحبس نصحه، كان آثما.
شأنه في هذا شأن من كان ذا مال وسعة، ثم لم ينفق من ماله في سبيل اللّه، وفى سدّ حاجات ذوى الحاجة من المؤمنين.
وثانيا: لم يقيد النص القرآنى هنا الإنفاق بالشيء الذي ينفق منه، من مال أو نحوه، بل جعله، إنفاقا مطلقا، يشمل كل ما يرزقه اللّه الإنسان من خير.. فسمّاه سبحانه رزقا، ليشمل المال وغير المال، من رأى، وعلم، وفنّ.
خلا يستبد المؤمن وحده، برزق رزقه اللّه إياه، وفيه فضل وسعة لغيره من المسلمين.
وثالثا: كذلك لم يقيد النص القرآنى ما ينفق من هذا الرزق بحدّ محدود، كالزكاة، بل جعله إنفاقا مطلقا.. لأنه في مقام الشورى لا يكون الإنفاق بقدر محدود مما يملك الإنسان من علم، ومما عنده من معرفة، بل إنه مطلوب منه في تلك الحال أن ينفق كل ما لديه، وأن يبذل كل ما عنده، غير ممسك بشىء من رأيه، أو محتجز شيئا من جهده، واجتهاده.
ونقرأ الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}.
وننظر مرة أخرى في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} وفى مقام هذا المقطع من الآية، بين ما سبقها، وما جاء بعدها من كلمات اللّه، فنرى كيف احتفاء الإسلام بالشورى، وكيف أنه أفسح لها مكانا بين فريضتين من فرائضه، هما الصلاة والزكاة، اللتان آخى بينهما في كل موضع جاء فيه ذكرهما في القرآن الكريم.. كما يقول سبحانه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} [3: البقرة] ويقول جلّ شأنه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [43: البقرة] ويقول سبحانه: {وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ} [55: مريم] ويقول عزّ من قائل: {وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا} [31: مريم].
ويقول تبارك اسمه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ} [1- 4: المؤمنون].
والفصل بين الصلاة والزكاة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} ليس فصلا، لأن الإعراض عن اللغو هنا، هو من تمام الصلاة التي يحفها الخشوع والخشية.. أما الفصل بين الصلاة والزكاة بالشورى، فهو لما للشورى من منزلة في ذاتها، وأنها جديرة بأن تكون في هذا المقام، وأن تتوسط أعظم فريضتين من فرائض الإسلام، وأهم ركنين من أركانه، بعد الإيمان باللّه.
والسؤال هنا: لما ذا كانت الشورى بهذه المنزلة من الإسلام؟ ولما ذا تلتفت إليها الشريعة الإسلامية بهذا القدر، وتنوّه بها إلى هذا الحدّ؟
ولقد أشرنا من قبل إلى ما للشورى من آثار في بناء المجتمع، وفى حياطة هذا البناء، وفى دفع العوارض التي تعرض له، وتهدّد وجوده.
ونريد هنا أن ننظر إلى المجتمع الإسلامى، الذي يقوم أمره على الشورى، وما للشورى من آثار مادية، ونفسية، وروحية، وعقلية. في حياطته، ودعم بنائه.
فالمسلمون مطالبون.. ديانة.. كما هم مطالبون سياسة وتدبيرا.. أن يقيموا أمرهم كله على الشورى.. وهذا من شأنه أن يجعلهم دائما في تواصل وفى تواص بالنصح، ومشاركة في السراء والضرّاء، حيث يجد المرء أنه مطالب بأن يكشف لأخيه عن المشكلات التي تعرض له، فيجد من صاحبه الرأى والنصيحة يبذلها له في إخلاص، بل ويسعى معه في دفع الضرّ عنه، ما استطاع، حسبة للّه، وأداء لحق وجب عليه.
فإذا كان الأمر العارض من البلايا العامة، التي تمسّ المجتمع، أو طائفة من المجتمع، تنادى لها المسلمون جميعا، وتداعوا عليها بالرأى، والعمل معا، وحمل كلّ منهم همها، وشارك فيها بكل ما وسعه من جهد.. هذا ما يقضى به الدّين، إلى جانب ما تقضى به ضرورات أخرى كثيرة..
وآثار هذه المشاركة كثيرة عميقة.
فأولا: أنها توحّد مشاعر المجتمع الإسلامى وتشدّ المسلمين بعضهم إلى بعض.. وتجعل منهم جسدا واحدا، فلا يشعر أحدهم أنه بمنجاة من الخطر الذي يهدّد أي عضو من أعضاء الجماعة.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم في قوله تعالى: {مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر}.
وثانيا: في عرض مشكلات المجتمع على الجماعة، وطلب الرأى والنصيحة من أفرادها- تربية للفرد على أداء وظيفته الاجتماعية معها، وإفساح مكان له فيها.. وهذا من شأنه أن يهيىء للفرد فرصا طيبة، يبرز فيها وجوده، ويربّى فيها ملكاته، وينمى قواه المدركة، حتى يكون أهلا لأن يأخذ مكانه منها، وهذا بدوره، داعية قوية تدعوه إلى طلب العلم والمعرفة، وإلى لقاء الجماعة بما حصل من علم، وما وعى من معرفة.
وثالثا: في عرض الآراء، وفى تقليب وجوهها، تصحيح لكثير من الآراء الخاطئة، وبالتالى تصحيح للمشاعر التي تتوالد عن هذه الآراء، والتي لو شارك المرء الجماعة في عمل من الأعمال، وهو بهذه الآراء، وتلك المشاعر، لكان آلة متحركة بغير وعى، عاملة بغير شعور، إن لم يكن جسدا غريبا، يعوق مسيرة الجماعة، ويقلل من جهدها.. ولهذا كانت دعوة اللّه سبحانه إلى النبىّ الكريم، بأن يقيم أمره في المسلمين على الشورى، فيقول سبحانه:
{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [159: آل عمران].. والرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- بما أراه ربه- في غنى عن المشورة، وعن أخذ الرأى من أحد، فإنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- كما وصفه الحق جلّ وعلا: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى} [3: النجم].. ولكن هكذا أقام اللّه سبحانه أن النبىّ مع الجماعة الإسلامية على المشورة، حتى تصحح الآراء الخاطئة على ضوء المشورة، وحتى يشترك الجميع مع النبىّ في إقامة الرأى، وفى حمل تبعة العمل، وتحمل المسئولية فيما ينجم عنه.. وقد رأينا النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه- بين يدى غزوة بدر يدعو الناس إليه قائلا: «أيها الناس.. أشيروا علىّ».
وذلك أنه صلوات اللّه وسلامه عليه، حين خرج بالمسلمين من المدينة للقاء عير أبى سفيان، لم يكن مخرجه لحرب قريش.
فلما أفلتت العير، جاءت قريش لتستنقذ العير أولا، ثم لتحارب النبي ثانيا.
فلما خلصت لها العير اتجهت إلى الحرب.. فكان هذا موقفا جديدا بالنسبة للنبى والمسلمين، ولم ير صلوات اللّه وسلامه عليه أن يلزم المسلمين رأيا فيه، فطلب رأيهم في الحرب ولقاء قريش، أو العودة إلى المدينة.. فكان الرأى الذي أجمع عليه المسلمون، هو الحرب، ولقاء العدوّ.. وقد كانت الحرب، وكان النصر! هذه هى بعض ملامح الشورى، في الإسلام. وهى.. كما ترى.
وثيقة من أروع الوثائق، ودستور من أقوم الدساتير في بناء المجتمع. وفى وصل مشاعر أفراده بعضها ببعض، وفى صبّ آراء أفراده في مجرى واحد يفيض بالخير والبركة عليهم جميعا.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}.
هو استكمال لصفات الذين آمنوا.. فإن من صفاتهم- إلى جانب ما ذكر لهم من صفات- أنهم لا يقبلون الظلم، ولا ينزلون على حكم الظالمين، بل إنهم حرب على الظلم وأهله، يبذلون في سبيل ذلك كل جهدهم وما ملكت أيديهم حتى إنهم ليقدّمون أنفسهم، ويبيعونها بيع السماح من أجل إقرار الحق، وإعلاء كلمته، والضرب على يد الباطل، وتنكيس رايته.. وليس الجهاد في سبيل اللّه، والاستشهاد في ميدان الجهاد، إلا صورة من صور دفع الظلم في أبشع صوره وردّ البغي في أقبح وجوهه.. لأن حرب الشرك والكفر هى حرب على الظالمين والباغين، الذين يسعون في الأرض فسادا، ويبغون في الأرض بغير الحق.
وسواء أكان البغي الذي يصيب المؤمن بغيا واقعا عليه هو في ذات نفسه، أو واقعا على الجماعة الإسلامية، فإن المؤمن مطالب- ديانة، إن لم يكن حمية وأنفة- أن يدفع هذا البغي، ويرد ذلك العدوان.. فالبغى منكر غليظ، والمؤمن حرب على المنكر، أيّا كان، وبأى سلاح يقدر عليه، وفى الحديث الشريف: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.. وذلك أضعف الإيمان».
فأدنى منازل الحرب للظلم، هو إنكاره بالقلب، وازدراؤه وازدراء أهله.. وهذه منزلة لا يصير إليها المؤمن إلا إذا أعجزته القدرة عن الجهر باللسان، والتشنيع على الظلم والظالمين، كما أنه لا يقف المؤمن عند حدّ الحرب باللسان، إلا إذا لم يملك القوة المادية التي يضرب بها في وجه البغي والباغين.
وفى قوله تعالى: {هُمْ يَنْتَصِرُونَ}.
وفى الإتيان بضمير الفصل {هم} إشارة إلى أن من وقع عليهم البغي يجب أن يكونوا هم أول المتصدين له، العاملين على دفعه، لا ينتظرون حتى يتولى عنهم غيرهم الأخذ بحقهم، والانتصاف لهم ممن ظلمهم، وإن كان هذا لا يمنع المؤمنين جميعا أن يساندوهم ويشدوا ظهرهم.
وفى إسناد دفع الظلم، ورد البغي، إلى من وقع عليه ظلم وبغى- هو إعلان لإنكار هذا المنكر، ممن وقع عليه، وإلا كان سكوته عليه، هو رضا به، وتقبلا له، الأمر الذي لا يقيم حجة لغيره أن ينتصر له، ويقف في المعركة معه.
وفى التعبير عن التصدّى للعدوان، ودفع البغي بقوله تعالى: {يَنْتَصِرُونَ}.
بدلا من التعبير بلفظ مثل: يدفعون، أو يردّون، أو نحو هذا- تحريض لمن وقع عليه البغي أن يتحرك لرد هذا العدوان- لأنه، إن فعل- فسيكون على موعد مع النصر، الذي وعده اللّه سبحانه وتعالى إياه في قوله جل شأنه:
{ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [60: الحج] قوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
هو تحريك لمشاعر أولئك الذين بغى عليهم أهل البغي أن يأخذوا بحقهم، وأنه إذا كان العفو سنّة كريمة، وعملا مبرورا، فإنه لا يكون كذلك حتى يجىء عن قدرة على من بغى، فيكون العفو هنا، عن فضل وإحسان، ممن بغى عليه، الأمر الذي يرى منه الباغي أن هناك يدا قادرة على أن تقطع هذه اليد التي بغت، فلا يتمادى بعد هذا في بغيه، بل ينزجر ويندحر، ولا يطل برأسه من جحره بعد هذا أبدا.
ففى وصف البغي بالسيئة، إشارة إلى أنه من المنكر الذي ينبغى على المؤمن محاربته.
وفى وصف ردّ العدوان ودفع البغي بالسيئة، إشارة إلى أن من أساء، لا ينبغى أن يتحرج المؤمن من الإساءة إليه، وإلحاق الضرر به، كما أساء هو إلى غيره. وساق إليه الضرّ والأذى.. فالسيئة هنا، إنما هى سيئة بالإضافة إلى من بدأ بالإساءة.. فما هى إلا عمله قد ردّ إليه.. وفى قوله تعالى: {سَيِّئَةٌ مِثْلُها} إشارة إلى أن الجزاء، هو من جنس العمل.
وقوله تعالى: {فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} إشارة إلى الأخذ بما هو أولى من جزاء السيئة بسيئة مثلها، وهو العفو عن المسيء، وذلك بعد القدرة عليه، ووقوعه ليد من بغى عليه.. فإن العفو مع القدرة- كما قلنا- هو عقوبة للمعتدى، ووقعها على النفوس الحية أقسى وأمر من كل عقوبة.
وفى قوله تعالى: {وَأَصْلَحَ} إشارة إلى أن لمن أراد أن يأخذ بالعفو أن يسلك الطريق الذي يراه في هذا المقام، فله أن يعفو عفوا عامّا، وأن يعفو عن بعض، ويأخذ ببعض، حسب ما يرى من المعفوّ عنه، ومن الظروف والأحوال المحيطة به.
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} إشارة إلى المنتصر بعد ظلمه، ألا يتجاوز حدود الأخذ بحقه ممن ظلمه، وإلا كان ظالما، وانتقل بذلك من مبغىّ عليه إلى باغ، ومن مظلوم إلى ظالم، وقد كان اللّه سبحانه نصيرا له، فأصبح مخذولا من اللّه، مذموما: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
قوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
هو عرض شارح لقوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها}.
وهو تحريك أيضا لمشاعر الثورة على البغي، ودفع لما يجد أهل السلامة والصلاح في صدورهم من حرج في أن ينالوا أحدا بسوء، حتى ولو كان مسيئا.. وهذا خروج على سنن العدل، ومجافاة لطبيعة الحياة، وإطلاق لأيدى السفهاء أن يعيثوا في الأرض فسادا، وأن يبتلى بهم الأنقياء والأبرار ابتلاء عظيما.. ولهذا جاء الإسلام يقرر هذه الحقيقة، ويعطى أهله حق الدفاع عن أنفسهم، بلا بغى أو عدوان، حتى يكون لهم من ذلك وقاية من آفات ذوى الشر والعدوان.
ولقد كانت دعوة المسيح- عليه السلام- إلى اليهود، أن من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن نازعك رداءك، فاخلع له ثوبك أيضا- كانت تلك الدعوة بلاء من اللّه لليهود، ونقمة منه سبحانه، بعد أن بغوا وأفسدوا في الأرض.. وكانت تلك الجرعات المرة القاسية التي قدمها السيد المسيح لهم- هى من بقايا الكئوس المرة القاسية، التي تجرعها الناس من سموم كيدهم، ومكرهم!.
فليس ثمة من سبيل ولا لوم، على من انتصر من بعد ظلمه، فانتصف ممن ظلمه. وأخذ بحقه منه.. وإنما السبيل واللوم على من بدأ بالظلم، وبغى على الناس.. أو على من انتصر من بعد ظلمه، فجاوز الحد، وانتهى به ذلك إلى أن يكون من الظالمين الباغين.. فهؤلاء لهم عذاب أليم، هو قصاص من العدل الإلهى، ينتصف فيه سبحانه للمظلوم من ظالمه.
قوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
الواو للقسم، واللام واقعة في جواب القسم.. والإشارة إلى الصبر والمغفرة.
أي إن الصبر والمغفرة من عزم الأمور.
وعزم الأمور، هو موجبها، ولازمها، الذي هو ملاكها، الذي تقوم عليه، بحيث لا يتم لها وضع صحيح إلّا به.. فلكل أمر عزيمة، هى السبب أو الأسباب الموصلة إليه.. وفى الحديث: «إن اللّه يحب أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه».
وهى فرائضه، وما أوجبه اللّه سبحانه على عباده.
وفى إسناد عزم الأمور إلى الفاعل، أي فاعل الصبر والمغفرة، بدلا من إسناده إلى ذات الصبر والمغفرة- إشارة إلى أن المعوّل عليه في إعطاء القيمة للصبر والمغفرة هو الفاعل لها، وأنه بقدر صبره ومغفرته يتحقق للصبر والمغفرة، الصفة المناسبة التي تكون له منهما.. ومن حكم العرب: خير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله.
والآية الكريمة تعقيب على هذه القضية العامة، التي تنتظم الناس جميعا، فهم بين ظالمين معتدين، ومتتصفين من الظالمين المعتدين.. وهذا يعنى أنهم في حرب متصلة لا تنقطع أبدا.. يوقد الظالمون المعتدون نارها، ويزيدها المظلومون المعتدى عليهم ضراما، بالاشتباك في صراع مع من ظلمهم واعتدى عليهم.
وهذه فتنة وابتلاء للناس.. وأنه إذا كان من حقّ المظلومين أن ينتصفوا من ظالميهم، فإن عليهم أن يذكروا أنهم في وجه فتنة وابتلاء، وأنه من الحكمة أن يعالجوا الأمر برفق، وأن يأتوا إليه لإطفاء ناره، لا لتأججها.. وهذا أمر متروك لتقدير الإنسان، على ألا يخرج به الحال أبدا إلى الظلم والبغي.
فإن شاء صبر، وعفا، وإن شاء انتصف وانتصر.

1 | 2 | 3